أ.غسان أنطوان معلم لبناني مصنف من أفضل 50 معلم عالمياً
لم يعد خافيًا على أحد أن كل جوانب الحياة الاجتماعيّة والانسانيّة قد تأثّرت بشكل جذري بحلول أزمة كورونا واجتياحها العالم، ولعلّ واحدًا من أكثر القطاعات تأثّرًا سواء سلبًا أم ايجابًا، لكنّ عالمنا العربي ذو خصوصيّة من حيث شبه “الاهمال” الّذي كانت تعاني منه التربية في  بعض دولنا العربيّة وليس كلّها ، ولتأكيد هذا الأمر يكفي النظر الى بعض المؤشّرات البسيطة:
o الحجم الصغير جدًّا للفقرات الّتي تتكلّم عن التربية والرؤية المستقبليّة اليها في البيانات الوزاريّة للحكومات.
o ما النسبة الّتي تشكّلها موازنة وزارة لتربية من حجم الموازنة العامّة في الكثير من دول عالمنا العربي.
o ما هو موقع معاشات المعلّمين في سلّم الرواتب الرسميّة علمًا أنّ المعلّم هو صانع مستقبل الأمم.
تحدّيات مستجدّة:
في ظلّ كلّ هذه الوقائع أتت أزمة كورونا لتحبس أكثر من مليار طالب حول العالم في منازلهم وتضعهم تحت خطر الحرمان من التعليم ولم يكن أمام الجسم التربوي في العالم الّا مسلك واحد للحلّ يكمن بالتعلّم عن بعد (ببعديه المتمثّلين بالتعلّم عبر الانترنت والتعلّم عبر القنوات التلفزيونيّة) بغضّ النظر عن مدى جهوزيّته له في عالمنا العربي خاصّة وهذا كان التحدّي الأكبر أمام المعلّمين وسط عوائق كثيرة نذكر منها:
 أوّلاً في التعلّم عبر الانترنت (تطبيقات، وسائل تواصل …) 
عدم توفّر الانترنت بشكل كافٍ للطلّأب والمعلّمين:
تفيد دراسة أجرتها International Telecommunication Union  (وهي المنظّمة المعتمدة رسميًّا من الأمم المتّحدة لمتابعة شؤون الاتّصالات في العالم) أنّ نسبة استخدام الانترنت في العالم العربي بلغت في آخر أيلول 2019 مستوى 51% فقط (وهذا قبل أزمة COVID-10  والتداعيات الاقتصاديّة الناجمة عنها)، هذا الرقم يدلّ أنّ قرابة نصف الطلّأب في المجتمع العربي محرومون أصلًا من التعلّم عبر الانترنت.
 سوء نوعيّة الانترنت المتوفّر:

 في ظلّ نوعيّة أنترنت رديئة في الكثير من الأقطار العربيّة لايمكن أن نقدّم تعليمًا عن بعد ذات نوعيّة مقبولة حتّى لو افترضنا  جدلاً انّ المضمون الملائم متوافر.

عدم توفّر الأجهزة الالكترونيّة بالعدد الكافي:
حتّى لو افترضنا أنّ الانترنت متوفّر فبمقاربة بسيطة نرى أنّه من الصعب تأمين جهاز لكلّ طالب في المنازل (سواء كمبيوتر أو هاتف).
نوعية التعليم أونلاين ومدى جهوزيّة المعلّم العربي له:

 أعتقد أنّ الجانب الأهم والأجدى والأصعب يكمن في هذه النقطة بالذات. حسب دراسة لموقع “Word economic” فأن حجم الاستثمار في مجال “التكنولوجيا التربويّة” قد بلغ في العام 2019 قرابة ال 19 مليار دولارًا ويتوقّع أن يبلغ الحجم التراكمي للاستثمار في هذا المجال حتى العام 2025 قرابة 350 مليار دولارًا. هذه الأرقام إن دلّت على شيء فهو مدى تنامي الرهان على استعمال التكنولوجيا في القطاع التربوي حول العالم، وهنا نجد أنفسنا أمام أسئلة كثيرة:

1- هل هذا الاستعمال للتكنولوجيا في التعليم هو الحلّ لمعوقات التعلّم عن بعد؟ بالحقيقة هذا السؤال لطالما كلن مثار جدل كبير في الأوساط التربويّة منذ ظهور هذه الاشكاليّة ولطالما كانت التوقّعات المرتجاة منه تتراوح بين اتّجاهين، الأوّل يبني توقّعات “طوباويّة” بمعنى أنّها  راهنت على أنّ سحر التكنولوجيا وتقدُّمَها سوف يساهم سريعًا بحلّ مشاكل التعليم ، والثاني يجد في التكنولوجيا نوعًا من المكننة لمهنة التعليم ينزع عنها البعد الانساني دون أن يخفي أصحاب هذا الرأي “فوبيا” التكنولوجيا الّتي تطبع انفعالاتهم، والواقع أن كلا الاتّجاهين قد ذهب بعيدًا في المبالغة امّا تفاؤلًا أو تشاؤمًا. فالواقع أنّ استعمال التكنولوجيا في مجال التعليم  يكون فعّالًأ بقدر ما يكون مبنيًّا على ثقافة وخبرة تربويّة من قبل المعلّم لا غيره، فالتكنولوجيا وسيلة وليست غاية مع الإقرار بالمستوى المتقدّم الّذي بلغته وبالدور الرائع الّذي يمكن أن تلعبه في تحسين الأداء التربوي اذا ما أُحسِنَ استعمالها بخلفيّة تربويّة عصرية هادفة تعرف مكامن القوّة ومكامن الضعف في هذا المجال. إذًا من المهمّ في زمن العولمة الاستفادة من ثورة تكنولوجيا المعلومات واستعمالها في مجال التربية ولكنّ الأهم هو أن نضع في متناول المعلّم المناهج التفاعليّة الّتي تستثمر الامكانات الرائعة والهائلة للتكنولوجيا بناء على خلفيّة تسعى الى تحقيق الأهداف التربويّة من تنمية كفايات الطالب ويناء شخصيّته الانسانيّة الملائمة للتعامل مع عالم القرن الواحد والعشرين السريع التطوّر.
2- نأتي هنا الى السؤال الثاني: هل المعلّم في عالمنا العربي جاهز للعب هذا الدور وبالسرعة المطلوبة منه؟ بالواقع ليس من واجب كلّ معلّم أن يكون “مصمّم مناهج” بحالات الطوارئ فهذا دور وزارات التربية أصلا ومراكز الأبحاث والإرشاد التابعة لها، أمّا المعلّم فيكفي إعداده لاستعمال هذه الأدوات ضمن الرؤية التربويّة للمناهج.
3- هل الفترة الّتي تفصلنا عن العام الدراسيّ الجديد كافية لإعادة بناء وتحديث المناهج بهذا القدر؟ الجواب هو لا بالطبع ولكن يمكن هنا اقتراح بعض الحلول ولو بشكل جزئيّ نأتي على ذكرها في آخر المقال.
ثانيًا: في التعلّم عبر الفيديو والبرامج التلفزيونيّة:
o لا شكّ أنّ هذه الوسيلة قد تحقّق قدرًا أعلى من العدالة بالنسبة للطلّاب من حيث أنّها متوافرة بين أيديهم أكثر من الانترنت واجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، ولكن من ناحية أخرى هي أقلّ أهميّة وانتاجيّة من التعليم عبر الانترنت خاصّة اذا ما استعملت كمجرّد شاشة عرض لتعليم بالوسائل التقليديّة، هنا لا بدّ من الاشارة الى أنّ التعليم في ظلّ التباعد الجسدي يخفّف كثيرًا من قدرة المعلّم على جذب الطالب وشدّ انتباهه للمشاركة في ورشة التعلّم الّتي هو مدعوٌّ اليها  وهذا يعني أنّ الدروس الّتي تعرض عبر تقنيّة الفيديو يجب أن تسعى للتعويض عن “فقدان الجاذبيّة” هذا، ولكن كيف؟
o من المفيد أن تكون الدروس المعدّة بتقنيّة الفيديو أو حتّى للعرض التلفزيوني, والّتي يمكن اعدادها منزليًّا في هذا العصر، مبنيّة على برامج معلوماتيّة متخصّصة  تبعًا للمادّة الدراسيّة وهذه البرامج متوافرة في معظم الموادّ.ومن الممكن ترك مساحة للتفاعل حتّى من خلال الفيديو.
آفاق حلول
لا بدّ من الاشارة أنّ الحلّ الجذري يكون في تبنّي الحكومات هذه الهواجس والعمل على بلورة سياسات حلول جذريّة لأنّ التربية هي بالاساس من مهمّات الدّول ولا يمكن للمبادرات الفرديّة والجماعيّة الحلول مكانها، ولكن بالمقابل لا يمكن لأصحاب المبادرات الفرديّة والجماعيّة الوقوف بدون حركة أمام هذا الواقع؟ طبعًا لا. من هنا يمكن التفكير ببعض المقترحات للإفادة مؤقّتًا من القدرات المتفرّقة هنا وهناك، من هذه المقترحات أن تشكّل المنظّمات التربويّة  والأهليّة في العالم العربي هيئة طوارئ يتمحور عملها في هذا الصيف حول:
– استبيان واقع المبادرات الفرديّة والمؤسّساتيّة القائمة اليوم على هذا الصعيد والمساعِدة في مجال التعليم عن بعد واعداد لائحة بها يصار الى تعميمها على المعلّمين العرب سواء عير الوزارات أو وسائل التواصل أو الجمعيّات الأهليّة، وذلك لأنّ هنالك الكثير من المنصّات والمبادرات الموجودة الّتي يمكن أن تشكل إحدى الدعائم لسد لثغرات.
– تشجيع المبادرات القائمة من القطاع الخاصّ على هذا الصعيد والسعي لتأمين الدعم لها عبر المؤسّسات العربيّة والدوليّة في حال كان المضمون ملائمًا.
– متابعة طرح واقع التعليم وأزمته في العالم العربي على المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة في محاولة لتأمين دعم لمشاريع الحلول.
– متابعة رفع الصوت عاليًا وباصرار بوجه الحكومات المقصِّرة في دعم التربية والبناء عليها كأساس لاستمرار وثبات الأوطان والمجتمعات والسلام.