أ.د/ نادية جمال الدين
أستاذ أصول التربية – جامعة القاهرة
د/ نادية هاشم
باحث بالهيئة العامة لتعليم الكبار

الحديث عن التعلم حديث عن التغير، والتغير دافع أساسي للتفكير والتفاعل والاستمرار في التعلم والمزيد منه لمواجهة التغير؛ فالتعلم إذا عملية نشطة مستمرة لا تتوقف مادام الإنسان على قيد الحياة ولديه الرغبة والقدرة على التعامل والتفاعل والتكيف مع التغيرات الحادثة أو المفاجئة في الواقع من حوله، وبناء على هذا فالتعلم والتغير يسيران معًا ويتكاملان سويًا.

 ومن هنا فالتغير يفرض دومًا أو يدفع للتساؤل حول الاستعداد لانتهاز الفرص وتبني الأساليب التي يمكن اتخاذها لمواجهة متطلبات الواقع المتغير ليواجه بتغيرات سريعة كرد فعل له. وإذا كان التغير يفرض ضرورة اكتساب معارف وقدرات جديدة ومهارات مختلفة ويفتح الأبواب أمام فرص غير متوقعه؛ فالواقع الحالي يؤكد أن زماننا هذا يمر بتغيرات سريعة قاسية منها ما هو معروف الآن بأزمة فيروس كورونا “كوفيد 19″، والتي واجهت العالم كله بلا استثناء دون مقدمات مسبقة ودون توقعات أو استعدادات كافية لمواجهتها. أزمة داهمه فرضت بقسوتها وسرعتها الحيرة والارتباك في البداية؛ ثم بدأ العالم_ بعد ظهور المشكلات المترتبة عليها _ في طرح التساؤلات: ماذا بعد؟ وإلى متى؟ وكيف يمكن المواجهة؟ وما الحلول السريعة الواجب اتخاذها للتعامل مع نتائج هذه الجائحة بكل ما ترتب عليها من اختلالات؟ وجاءت ردود الأفعال متعددة ومتنوعة وشديدة القسوة على البشر؛ حيث تمت في أحد جوانبها على هيئة الحصار خلف جدران المنازل.
فالواقع المعاش والملاحظات المدققة يؤكدان انه منذ الاعتراف بظهور هذه الأزمة  الصحية التي طالت الملايين من البشر وتهديدها العالم منذ نهاية عام 2019 وبداية عام 2020؛ لم توجد بعد إجابة واحدة أو إجابة مُرضية شافية عملية تُمكن العالم من اتخاذ قرارات سريعة أو مواجهة حاسمة تسمح باستمرار الحياة الطبيعية ،ولم يكن هناك من حل سريع لإنقاذ البشر أو التقليل من سرعة انتشار هذه الجائحة سوى  اتخاذ القرار بما عرف بالتباعد الاجتماعي وتوقف كافة أشكال النشاطات المجتمعية سواء أكانت اقتصادية او اجتماعية او رياضية أو تعليمية تحديدا ، فكان قرار إغلاق كافة المؤسسات التعليمية بكل مراحلها والذى آثار  كثيرًا من المشكلات التي ترتبت عليه دون سابق معرفة بأنواعها أو حجمها أو توقع لنتائجها.
ولعل أبرز ما يلاحظ الآن  هو أن كثيرًا مما قيل ويقال حول أن العالم قد أصبح ” قرية صغيرة” و انهيار الحدود  وزوال  المسافات بين الدول يبدو أنه آخذ في التراجع بسرعة غير متوقعة؛ حيث أغلقت كثير من الدول حدودها وتوقفت حركة الطيران العالمية ؛ واختلفت كل دولة في طرق مواجهتها للجائحة عن الأخرى سواء في قراراتها أو طرق حماية مواطنيها ومع إغلاق الحدود الدولية ظهرت مشكلات أخرى منها ما سمي بمشكلات العالقين ، وبدا المشهد و كأن كل دولة  تبحث عن مخرج لنفسها بطريقتها الخاصة سواء في استعادة أبنائها من الخارج أو محاولة اكتشاف علاج للوباء دون انتظار لاكتشاف عالمي واختلفت النظرة في تفسير الجائحة ونتائجها واختلاف تأثيرها على كل مجتمع على حده وخاصة من المنظور الاقتصادي مما دفع الدول لأن تعمل على أن تنجو بنفسها وتتخذ  قرارات تحمى وجودها منفردة بعيدة عن كثير مما قيل عن العولمة واكتساحها العالم وكأن الدولة الوطنية تعود بقوة لكي تمارس دورها وتحافظ على حدودها وتحدد طرق مواجهتها للأزمات وفقا لظروفها وامكاناتها الخاصة وحجم وشدة الجائحة من منظورها الخاص.
في غمار هذه الأزمات المحلية والعالمية متنوعة الملامح ومتعددة الآثار كان لوسائط الاتصال المتعددة والمتنوعة والمتواصلة فيما تبثه من أخبار ومعلومات دورها الفعال في جعلها أزمة إنسانية عالمية جامحة ومتراكمة الملامح والنتائج الآنية وربما المستقبلية، وانعكست هذه الأزمة بدورها على نظام التعليم الرسمي ؛ مما هدد ويهدد فرص الأطفال والشباب وامكانياتهم بل يضر أيضًا اقتصادات بأكملها ويؤثر بالتالي سلبًا على القوى العاملة  والحالة النفسية  لرأس المال البشرى وكافة المجالات المجتمعية المرتبطة بالإنسان حاضره و مستقبله، كما يوضح مؤشر رأس المال البشري للبنك الدولي.
وهنا تختفي أيضًا بعض ملامح العولمة في التعليم والتي سادت العالم منذ ظهور توصيات المؤتمرات العالمية والتي تعقدها منظمات دولية متخصصة؛ حيث قامت كل دولة على حدة إلى باتخاذ قرارات تتلاءم مع ظروفها وإمكانياتها البشرية والاقتصادية ونظامها التعليمي. ويوقف العام الدراس 2019-2020 قبل نهايته بشهور دون مقدمات وتبرز مشكلة الامتحانات سواء أكانت امتحانات النقل أم الشهادات العامة وتتوالى المقترحات ويلغى بعضها ليحل محلها مقترحات أخرى في حالة من الارتباك التعليمي والمجتمعي غير المسبوقة وتظهر الفروق بين التعليم الحكومي والتعليم الخاص والتعليم الدولي في المجتمع المصري بما يخل بل ويعصف بتكافؤ القرص بين تلاميذ الوطن الواحد ويُظهر بجلاء الفوارق الطبقية وجنايتها على حق المواطن في التعليم الجيد مع كل ما تردد في المواثيق الرسمية الوطنية.
ومن ثم فإن السياسات والمؤسسات التعليمية تواجه وسوف تواجه العديد من المآزق، كرد فعل مباشر وأساسي لانتشار الفيروس وكان من أول النتائج لهذا إيقاف العمل بالمؤسسات التعليمية والذي لم يكن هناك من خيار آخر حفاظا على أرواح وصحة الجمهور المستهدف وهم تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات وذويهم، وبالتالي المجتمع بكل أطيافه. فواقعيا و عمليا لم يكن هناك مفر من إغلاق المؤسسات التعليمية كافة وأصبحت أغلب القرارات  بالتالي رد فعل لأزمة طرأت فجأة ودون مقدمات  أو استعداد  لها مما يجعلها أشبه بتسونامي إكتسح  في طريقه ثوابت وأحدث تغيرات ومشكلات غير مسبوقة محليًا وعالميًا دون مبالغة،  وكان من نتائج قرار إغلاق مؤسسات التعليم مؤقتا  وحدة  توقع تكلفة نفسية و اجتماعية واقتصادية وتعليمية باهظة بل يمكن القول اضطرابات في جميع المجتمعات تقريبا والتي لم تنجو من الجائحة خاصة وتأثرت بها بصورة شديدة الوطأة، وإن اختلفت ملامح هذا التأثر ونتائجه تبعا لحجم وشدة الأزمة،  وحتى الآن ونحن تقريبا في منتصف عام 2020، ما يزال التعليم بمؤسساته المتعددة والمتنوعة (النظامي وغير النظامي ) ومراحله المختلفة مٌغلقًة أبوابه مما ترتب و يترتب عليه مشكلات وآثار سلبية منها الظاهر ومنها المتوقع ومنا مالم تظهر ملامحه  بعد أو لم تستطع  النظم التعليمية في مختلف بلدان العالم استشرافه بعد.
هنا لابد وأن نتوقف للحديث تفصيلا عند الآثار السلبية والمتغيرات المجتمعية والانسانية التي ترتبت على قرار إغلاق مؤسسات التعليم كافة، ومن أهم هذه الآثار السلبية ما يلي:
– العزلة الاجتماعية: حيث تعتبر مؤسسات التعليم مراكز لممارسة الأنشطة الاجتماعية والتفاعل الانساني وبإغلاقها تٌغلق أمام الأطفال والشباب فرص التفاعل الاجتماعي والترويح والأنشطة الرياضية، مما يهدد الأهداف الاجتماعية والإنسانية والسياسية للتعليم.
– التكلفة الاقتصادية غير المتوقعة فمن المرجح أن تتفرغ الأمهات العاملات لرعاية الأطفال مما قد يتسبب في تراجع دخل الأسرة والتأثير سلبًا على الإنتاجية بما يترتب عليها من آثار اقتصادية ومجتمعية. وارتبط هذا أيضا بتضييق فرص العمل المتاحة أمام بعض الفئات الذين كانوا يقدمون خدمات في هذا المجال مثل سائقي المركبات ودور الحضانة وغيرهما.
– الفرص البديلة للتعليم المدرسي: من المتوقع أن يحاول الأهل تيسير تعليم الأطفال في المنزل عند توقف المدارس وقد يجد بعضهم صعوبة في أداء هذه المهمة بأنفسهم أو باللجوء إلى الدروس الخصوصية ورغم الحلول الجزئية التي تقدمها بعض الجهات من خلال المنصات الإلكترونية التعليمية إلا أن هذا كان سببا في تعميق اللامساواه بين من يمكنهم الوصول إلى هذه الوسائط ومن لا يمكنهم لأسباب متعددة وهنا تظهر الفوارق الطبقية بما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية أو الإنصاف الذي هو أساس للعدالة الاجتماعية في المجتمع.
– فرص الانتفاع بمميزات التكنولوجيا الرقمية واللجوء إلى التعلم من خلال الإنترنت وهو ما يطلق عليه بالتعلم من بعد في صيغته الإلكترونية، والرأي هنا أن هذا ليس من الأمور السهلة؛ حيث صعوبة الانتفاع بالتكنولوجيا في المناطق المحرومة وأيضا العوائق المادية التي تواجه التلاميذ ممن ينتمون إلى أسر فقيرة،  ونقص الميزانيات المخصصة لتجهيز بنية أساسية تكنولوجية وبالإضافة إلى هذا كله  قلة أعداد المعلمين الذين يمتلكون المهارات الكافية لتقديم المادة العلمية عبر هذه التكنولوجيا ومساعدة التلاميذ على الاستفادة منها بصورة مٌرضية؛ مما يتطلب من مؤسسات إعداد المعلم مراجعة محتواها التربوي والتدريبي بجدية.
بناء على ما سبق لم يعد من المقبول والحالة هذه الحديث عن فجوة رقمية بين من يملكون ومن لا يملكون أو بين الريف والحضر أو بين المناطق المرفهة والمناطق المحرومة؛ فالمساواة في حق الوصول إلى هذه الوسائط المتجددة والمتزايدة الميسرة لعمليات التعلم ضرورة زمان ومسؤولية دولة وحق إنساني ليتحقق من خلاله الإنصاف لجميع أفراد المجتمع مع ضمان الجودة لعمليات التعلم المتاحة. وهذا يؤدي الى القول بأن التعلم من بعد أصبح لا يقتصر على تعليم الكبار والبرامج غير النظامية وإنما يتسع ليشمل الكبار والصغار ويمكن التعامل معه من منظور أنه تعلم مستمر للجميع في جميع مراحل العمر لتلبية كافة المتطلبات المتغيرة في سرعة ولمواجهة الأزمات المفاجئة فهو تعلم مكمل حقا لتجديد معلومات ومهارات من يرغب الحصول على فرص العمل البازغة في مجتمع تلعب فيه التكنولوجيا دوراً متجددًا في إتاحة فرص عمل لم تكن معروفة من قبل تعوض بل وربما تزيد عن فرص العمل الضائعة.
نتيجة لتلك التغيرات التكنولوجية الكاسحة والتي ما عادت تفرق بين دول متقدمة وأخرى ما تزال متطلعة للتقدم؛ فقد شهد الجميع في المجتمعات المعاصرة كيف تحولت الاجتماعات والمؤتمرات والمناقشات والمحاضرات والحصص التعليمية إلى الفضاء الافتراضي، وكيف أديرت كثير من الأعمال من خلال الوسائط الإلكترونية، وكيف نمت التجارة الإلكترونية بصورة كثيفة؛ فلم يعد الوصول بالمنتج إلى المشترى حتى عتبات بيته من قبيل الرفاهية بل أصبح من المتطلبات الضرورية والأساسية لكثير من الأسر والأفراد والمؤسسات التي تمتلك مهارات التعامل مع هذا النمط من التجارة.
ولما كان الأمر يتطلب التوقف أمام التعلم في حد ذاته فلابد من الاشارة إلى أن مؤسسات التعليم لم تعد هي الوسيلة الوحيدة التي من خلالها يمكن توفير المعارف و المعلومات و الجديد منها و وإتاحتها لكل من يرغب ويقدر ؛ فهذه المؤسسات رغم كل مالها وما عليها فإنها في حاجة إلى مراجعة أدوارها وأهدافها وما يمكن أن تقدمه لجمهورها، وبالرغم من أن بعض الدول قد تنبهت لهذا قبل بداية القرن الحادي والعشرين إلا أن الجائحة  الصحية الحالية وما ترتب عليها، قد أحدثت أثرا أقوى من أي رؤية أو فلسفة فدفعت بسرعة إلى البحث عن بدائل أو اتخاذ إجراءات تعويضية عاجلة لإنقاذ الموقف. ومما يمكن إضافته هنا هو أن البحث عن البدائل يقودنا حقًا إلى القول بأن المؤسسة التعليمية مؤسسة إنسانية ضرورية لكافة المجتمعات فقد نجحت عبر سنوات طويلة من تاريخ البشرية في تلبية الاحتياجات الإنسانية في زمانها ومجتمعها؛ وبالتالي فإن لها أهداف متطورة، متغيرة متجددة تتلاءم مع الزمان والمكان والمتطلبات الإنسانية ويتطلب الامر التأكيد على أنها ليست للتعليم أو نقل المعرفة فقط مع أهمية هذا.  ومن ثم فإن التوقف عند التعلم من بعد ومحاولة اعتباره بديلا للتعليم المدرسي يحتاج إلى وقفة جادة للتأمل والحوار بشأنه ..إذا  فالسؤال الملح هنا هل المنزل يصلح كبيئة  تعليمية تتيح التعلم بجوانبه المتعددة طوال الوقت؟!
وإذا كانت الصيغة الموجودة حاليا للمدرسة من حصاد الثورات الصناعية ومتطلباتها في أوروبا منذ منتصف القرن الثامن عشر إلا أنه لا يمكن القول بأنها قد انتهى زمانها،  ومع هذا فمن الممكن أيضا القول بأن مؤسسات التعليم وأساسًا المدرسة يجب أن يٌعاد النظر في جودة ما تقدمه وأهدافها التي ينبغي مراجعتها في ضوء متغيرات الزمان والمكان ومتطلبات البشر أنفسهم في إطار واقعهم الاجتماعي بكل جوانية ومتغيراته، ولابد من التفكير أيضا بجدية في أنماط  ملائمة للعصر مكملة  لوظائفها وأدوارها الممكنة في أن تستكمل وتهيئ للإنسان الفرص للحصول على الجديد والمتجدد من علوم ومعارف وقيم ومهارات لمواجه متطلبات التحولات الرقمية السريعة، ومن ثم تحقق  لإنسان هذا الزمان الرقمي وفى كل مكان وفى أي وقت يريده الفرصة للتعلم المستمر مدى الحياة بمفهومة المعاصر وتضيف وتتيح  في سرعة له ما يحتاجه بصورة آنية مع ما تقدمه مؤسسات التعليم النظامية خاصة ويتكامل مع القدرات الهائلة للتكنولوجيا الرقمية على النقل السريع والذكي للمعلومات والمعارف والاخبار واسترجاع ما تم حفظة في الوقت المناسب وحين يحتاجه بشريطة أن يتاح للمواطن صغيرا كان أم كبيرا أو في أي مرحلة من العمر وبصورة متساوية حقيقية لأفراد المجتمع جميعًا دون ما تفرقة، هذا إذا أردنا حقا تحقيق مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والتي لا مفر منها في عالم متنوع ولكنة أصبح صغيرا وقريب المسافات نتيجة لهذه التكنولوجيا الرقمية الماردة في قدرتها.
ويُبشر التوسع في استخدام التعلم من بعد باتساع النظرة إلى التعلم مدى الحياة والذي من المطلوب أن يكون تعليما مستمرا بالفعل للجميع بأشكال وصيغ مختلفة ومتنوعة وفترات زمانية قصيرة سريعة تنشيطية أو تكميلية أو مؤسسه لجديد دون تردد؛ ومن ثم  وبإتاحة التعلم من بعد تصبح الفرصة سانحة لكل انسان في الاستمرار في التعلم بالصيغة التي تلائمه وبالمرونة المناسبة لاحتياجاته وفي الوقت المناسب وبالمحتوى المطلوب، و يُمكن أن يُتاح هذا النمط من التعلم  من خلال المدارس- الجامعات – مراكز التدريب التي تعمل بالطرق التقليدية أو من بعد  أو من خلال دمجهما معًا فيما يعرف الآن بالتعلم المدمج.
وبديهي أن هذه كلها قد أصبحت صيغًا مطلوبة بل مرغوبة لمواجهة ما تفرضه متطلبات الواقع، من هنا لن يقتصر التعلم المستمر مدى الحياة على الكبار كما كان مشهورًا من قبل، بل يتحول ليصبح ثقافة أساسية سائدة متاحة تفرض نفسها على المجتمع ككل.
وهذا يؤكد أن التعليم والتعلم لا يمكنه أن يظل مرتبطًا بلقمه العيش أو استخدام شهاداته ودرجاته العلمية للتوظيف أو التأهل للعمل، ولكنه يرتبط بمجالات الأنشطة الإنسانية المتعددة، كما يٌقدم مزيدًا من الفهم لمتطلبات النمو المهني والشخصي ومتغيرات مرحلة الشيخوخة وإتاحة فرص التجديد لكل ما يرغبه الانسان والأهم من هذا كله أنه يتيح للإنسان فرصة التغلب على المفاجآت والأزمات غير المتوقعة.
بديهي أن هذا يتضمن ويضع على عاتق القائمين على التعليم في المجتمع مسؤوليات وتحديات ومتطلبات وأدوار جديدة تتيح التحول لما هو جديد للتعامل مع كل ما هو مفاجئ ومختلف، هنا لابد وأن نتعلم عبور الفجوات المرتبطة بالإنصاف والإتاحة والجودة، ثم يكون النظر للتعلم من بعد كوسيلة وأداة ميسرة تسير جنبا إلى جنب مع الطرق التقليدية للتعلم وبما يحافظ على الأهداف الإنسانية والاجتماعية لعمليات التعليم والتعلم.  بدهيي أن الانسان ليس بحاجة إلى أن يكتسب معارف فقط بل أيضا بحاجة إلى أن يتعلم ليكون وليعمل وليعيش مع الاخرين ولأن يكون قادرا على مواجهة التغير وإحداثه بنفسه ولنفسه وقبل ذلك كله أن يتعلم كيف يتعلم.
وتبقى كلمات ضرورية للتأمل في مجتمع اهتمت ثقافته المتواترة بالتعلم من المهد إلى اللحد وارتبطت بأن طلب العلم فريضة؛ واضيف إلى هذا تلك النظرة إلى التعليم  في مصر والتي ارتبطت بعصر محمد علي مع بدايات القرن التاسع عشر والذي وجه اهتمامه لإعداد جيش قوي عماده التعليم على النمط الأوروبي ، ثم ارتبطت الشهادة بعد نشأة الجامعة المصرية بسوق العمل وما توفره الدرجة العملية من فرص فطغت النظرة للشهادة على أنها بطاقة من أجل لقمة العيش؛ حيث يبدو الأمر وكما أشار الدكتور يونان لبيب رزق عام 2007 في مقال له بالأهرام أن المصريين وكأنهم لا يؤمنون بفكرة العلم للعلم.
أما بالنسبة للتعليم العام فمن أجل محاصرة الشباب وإزاحتهم بعيدًا عن أبواب الجامعات التي كانت قليلة العدد في الستينيات بمصر، وعندما ظهر الاهتمام بإعداد القوى العاملة حيث كانت الصناعة محط اهتمام الدولة المصرية حينئذ، هنا تزايد الحديث عن توفير التعليم الفني وإن اقتصر واقعيا وعمليا على الفئات الأقل حظًا في المجتمع وكأن لسان حال المسئولين عن السياسة التعليمية بقول بأن التعليم الفني لأبناء الآخرين وليس لأبنائنا. وربما جاء الرفض من قطاع عريض من المصريين لهذه النوعية من التعليم إلى أنه إ لم يتوفر له الاهتمام بمحتواه وجودته وما يقدمه من مخرجات ولم يحقق الغرض منه في إعداد خريجين بمستوى من المهارات يطلبها أو يحتاجها سوق العمل مما دفع القادرين للتحايل على الالتحاق به عن طريق الالتحاق بالتعليم الخاص او الدروس الخصوصية للحصول على درجات تؤهلهم للالتحاق بالتعليم الثانوي العام فالتعليم الجامعي.
معنى هذا أنه لابد من أن نعاود التفكير فيما يتردد حول امكانية أن يحل التعلم من بعد محل المؤسسة التعليمية خاصة المدرسة فليس كل ما يقال يصلح للتطبيق في كافة المجالات والأحوال وعلينا  ألا ننزلق مرة أخرى في التحدث عن التعلم من بعد وإحلاله وجعله مسارًا بديلًا أو موازيًا للتعليم التقليدي بأنماطه المختلفة ومراحله المتعددة ومؤسساته الراسخة عبر التاريخ والمعروفة بأهدافها الاجتماعية والاقتصادية والانسانية والسياسية؛ فتربية المواطن وتنشئته السياسية وتفعيل انتمائه لمجتمعه  واكتسابه لثقافة مجتمعه وتمكينه من التفاعل مع الثقافة السائدة وأفراد المجتمع والشعور بالانتماء والولاء كل هذا أساسا من نتاج العملية التربوية الاجتماعية الدائرة في المدرسة والتي من أهدافها الأساسية أنسنه الإنسان  و تكوين المواطن المنتمي وما اصعب هذا وضرورته.
التعليم المؤسسي ضرورة ومن ثم فإن التعلم من بعد مع التأكيد على أهميته يتطلب وجوب التفكير بجدية في صيغ مؤسسية له، تتيح الحصول عليه وتضمن الاعتراف بمخرجاته، وتوفر لصاحبه الفرص الأفضل سواء أكانت تحقق أهدافًا فردية خاصة أو تلبية لمتطلبات الواقع المجتمعي ومتطلبات الزمان الرقمي المتغيرة.
من هنا وجب التأكيد على أن التعلم من بعد مدى الحياة وسيلة مكملة وميسرة ومحققه لأغراض آنية ذاتية مرتبطة بالاحتياجات الناشئة والبازغة سواء أكانت فردية أم مجتمعية وللتغلب على أزمات ما كانت متوقعة، فالمنطلق في الحديث هنا هو الاهتمام بمواجهة تشوهات الواقع وليس انطلاقًا مما ينبغي أن يكون.
ولعل هذا يدعونا إلى القول بأن ساعات التعلم المكتسبة من خلال صيغة التعلم من بعد بقدر ما تعود
إلى المتعلم بالفائدة فإنها تعتبر أيضا من متطلبات استمرار المؤسسات العاملة في المجتمع والاعتراف بها وبمستوى جودتها والذي يتيح لها أن تقدم خدماتها للجمهور بفاعلية وجودة موثوق فيها، وبناء على هذا يتحول التعلم من بعد إلى وسيلة لضمان الجودة والتجديد والابتكار والإضافة للإنسان ومؤسسات المجتمع معًا وليس بديلا عن مؤسساته النظامية الأساسية.
إن أفضل الآمال التي يمكن أن تتمسك بها وتعتنقها الإنسانية في أيامنا هذه التي تشهد تغيرات وأزمات غير مسبوقة، هو أن يظل البشر في هذا الزمان صغارًا وكبارًا يتعلمون ولا يتوقفون عن التعلم وأن يتذكروا دومًا أن المعرفة قوة وأن استخدام قوة المعرفة إنما يكون لبناء عالم أفضل للجميع.